فصل: فوائد لغوية وإعرابية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)}.
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: إنما سمي القلب لتقلبه.
وأخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عباس أنه كان يقرأ {قلوبنا غلف} مثقلة، كيف تتعلم وإنما قلوبنا غلف للحكمة أي أوعية للحكمة.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وقالوا قلوبنا غلف} مملوءة علمًا لا تحتاج إلى علم محمد صلى الله عليه وسلم ولا غيره.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عطية في قوله: {وقالوا قلوبنا غلف} قال: هي القلوب المطبوع عليها.
وأخرج وكيع عن عكرمة في قوله: {قلوبنا غلف} قال: عليها طابع.
وأخرج ابن جرير عن مجاهد {وقالوا قلوبنا غلف} عليها غشاوة.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله: {وقالوا قلوبنا غلف} قال: قالوا لا تفقه.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا في كتاب الإِخلاص وابن جرير عن حذيفة قال: القلوب أربعة: قلب أغلف فذلك قلب الكافر، وقلب مصفح فذلك قلب المنافق، وقلب أجرد فيه مثل السراج فذلك قلب المؤمن، وقلب فيه إيمان ونفاق، فمثل الإِيمان كمثل شجرة يمدها ماء طيب، ومثل النفاق كمثل قرحة يمدها القيح والدم، فأي المادتين غلبت صاحبتها أهلكته.
وأخرج الحاكم وصححه عن حذيفة قال: تعرض فتنة على القلوب، فأي قلب أنكرها نكتت في قلبه نكتة بيضاء، وأي قلب لم ينكرها نكتت في قلبه نكتة سوداء، ثم تعرض فتنة أخرى على القلوب فإن أنكرها القلب الذي أنكرها نكتت في قلبه نكتة بيضاء، وإن لم ينكرها نكتت نكتة سوداء، ثم تعرض فتنة أخرى فإن أنكرها ذلك القلب الذي اشتد وابيض وصفًا ولم تضره فتنة أبدًا، وإن لم ينكرها في المرتين الأوليتين أسود وارتد ونكس، فلا يعرف حقًا ولا ينكر منكرًا.
وأخرج ابن أبي شيبة في كتاب الايمان والبيهقي في شعب الإِيمان عن علي رضي الله عنه قال: إن الإِيمان يبدو لحظة بيضاء في القلب، فكلما ازداد الإِيمان عظمًا ازداد ذلك البياض، فإذا استكمل الإِيمان ابيض القلب كله، وإن النفاق لحظة سوداء في القلب، فكلما ازداد النفاق عظمًا ازداد ذلك السواد، فإذا استكمل النفاق اسود القلب كله، وأيم الله لو شققتم على قلب مؤمن لوجدتموه أبيض، ولو شققتم عن قلب منافق لوجدتموه أسود.
وأخرج أحمد بسند جيد عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «القلوب أربعة: قلب أجرد فيه مثل السراج يزهر، وقلب أغلف مربوط على غلافه، وقلب منكوس، وقلب مصفح، فأما القلب الأجرد فقلب المؤمن سراجه فيه نوره، وأما القلب الأغلف فقلب الكافر، وأما القلب المنكوس فقلب المنافق الكافر عرف ثم أنكر، وأما القلب المصفح فيه إيمان ونفاق، ومثل الإِيمان كمثل البقلة يمدها الماء الطيب، ومثل النفاق كمثل القرحة يمدها القيح والدم، فأي المدتين غلبت على الأخرى غلبت عليه».
وأخرج ابن أبي حاتم عن سلمان الفارسي موقوفًا مثله سواء.
وأما قوله تعالى: {فقليلًا ما يؤمنون}.
أخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة في قوله: {فقليلًا ما يؤمنون} قال: لا يؤمن منهم إلا قليل. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
{قُلُوبُنَا غُلْفٌ} متبدأ وخبر، والجملة في محلّ نصب بالقول قبله، وقرأ الجمهور: {غُلْف} بسكون اللام، وفيها وجهان: أحدهما: وهوالأظهر أن يكن جمع أَغْلَف كأحمَر وحُمْر وأصفر وصُفْر، والمعنى على هذا: أنها خلقت وجعلت مغشَّاة لا يصل إليها الحَقّ، فلا تفهمه ونظيره: {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ} [فصلت: 5] قال مجاهد وقتادة استعارة من الأَغْلَف الذي لم يَخْتَتِنْ.
والثاني: أن يكون جمع غلاف، ويكون أصل اللام الضم، فتخفف نحو: حمار وحمر، وكتاب وكتب، إلاّ أن تخفيف فُعُل إنما يكون في المفرد غالبًا نحو: عُنُق في عُنْق وأما فُعْل الجمع فقال ابن عطية: لا يجوز تخفيفه إلاَّ في ضرورة، وليس كذلكن بل هو قليل، وقرأ ابن عَبَّاس والأعرج ويروى عن أبي عمرو بضمّ اللام، وهو جمع غلاف، ولا يجوز أن يكون فُعُل في هذه القراءة جمع أَغْلَف؛ لأن تثقيل فعل الصحيح العين، لا يجوز إلاَّ في شعر، والمعنى على هذه القراءة: أن قلوبنا أوعية فهي غير محتاجة إلى علم آخر، وهو قول ابن عباس وعَطَاء.
وقال الكلبي: معناه أوعية لكلّ علم فهي لا تسمع حديثًا إلا وَعَتْهُ إلاَّ حديثك لا تعلقه ولا تعيه، ولو كان فيه خبر لفهمته ووعته.
وقيل: غلف كالغلاف الذي لا شيء فيه مما يدلّ على صحة قولك: التغليف كالتعمية في المعنى.
قوله: {بَلْ لَعَنَهُمْ اللهُ} {بل}: حرف إضراب، والإضراب راجع إلى ما تضمَّنه قولهم من أن قلوبهم غُلْف، فردّ الله عليهم ذلك بأن سببه لعنهم بكفرهم السّابق، والإضراب على قسمين: إبطال، وانتقال.
فالأول، نحو: ما قام زيد بل عمرو، والانتقال كهذه الآية، ولا تعطف {بل} إلا المفردات، وتكون في الإيجاب والنفي والنهي، ويزاد قبلها لا تأكيدًا.
واللَّعن: الطَّرد والبُعْد، ومنه: شأو لَعِينٌ، أي: بعيد؛ قال الشَّمَّاخ: الوافر:
ذَعَرْتُ بِهِ القَطَا وَنفَيْتُ عَنْهُ ** مَقَامَ الذِّئْبِ كَالرَّجُلِ اللَّعينِ

أي: الرجل البعيد، وكان وجه الكلام أن يقول: مقام الذّئب اللّعين كالرجل والباء في {بكفرهم} للسبب، وهي متعلّقة ب {لَعَنَهُم}.
وقال الفارسي: النية به التقدم أي: وقالوا: قلوبنا غلف بسبب كفرهم، فتكون الباء متعلقة ب {قالوا}، وتكون {بل لعنهم} جحملة معترضة، وفيه بُعْد، ويجوز أن تكون حالًا من المفعول في {لعنهم} أي: لعنهم كافرين، أي: ملتبسين بالكُفْرِ كقوله: {وَقَدْ دَّخَلُواْ بالكفر} [المائدة: 61].
قوله: {فَقَلِيلًا مَا يؤْمِنُونَ} في نصب قليلًا ستة أوجه:
أحدها: أنه نَعْت لمصدر محذوف، أي: فإيمانًا قليلًا يؤمنون؛ لأنهم كانوا يؤمنون بالله، ويكفرون بالرسل.
الثاني: أنه حال من ضمير ذلك المصدر المحذوف، أي: فيؤمنونه أي: الإيمان في حال قلّته، وقد تقدم أنه مذهب سيبويه، وتقدّم تقريره.
الثالث: أنه صفة لزمان محذوف، أي: فزمانًا قليلًا يؤمنون، وهو كقوله: {آمِنُواْ بالذي أُنْزِلَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَجْهَ النهار واكفروا آخِرَهُ} [آل عمران: 72].
الرابع: أنه على إسقاط الخافض، والأصل: فبقليل يؤمنون، فلما حذف حرف الجرّ انتصب، ويعزى لأبي عبيدة.
الخامس: أن يكون حالًا من فاعل {يؤمنون} أي: فَجَمْعًا قليلًا يؤمنون، أي: المؤمن فيهم قليلٌ، قال معناه ابن عباس وقتادة والأصم وأبو مسلم.
قال ابن الخطيب: وهو الأولى؛ لأن نظيره قوله: {بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلًا} [النساء: 155]، ولأن الجملة الأولى إذا كان المصرح فيها ذكر القوم فيجب أن يتناول الاستثناء بعض هؤلاء القوم.
وقال المهدوي: ذهب قتادة إلى أن المعنى: فقليل منهم يؤمن، وأنكره النحويون، وقالوا: لو كان كذلك للزم رفع قليل.
وأجيب: بأنه لا يلزم الرَّفْع مع القول بالمعنى الذي ذهب إليه قَتَادَةٌ لما تقدم من أنَّ نصبه على الحال وافٍ بهذا المعنى.
و{ما} على هذه الأقوال كلها مزيدة للتأكيد.
السادس: أن تكون {ما} نافية، أي فما يؤمنون قليلًا ولا كثيرًا، ومثله: {قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ} [الأعراف: 10] {قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3]، كما يقال: قليلًا ما يغفل أي: لا يعقل ألبتة.
قال الكِسَائي: تقول العرب: مررنا بأرض قليلًا ما تنبت، يريدون: لا تنبت شيئًا، وهذا قول الوَاقِدِيّ.
وهو قوي من جهة المعنى، وإنما يضعف من جهة تقديم ما في حَيّزها عليها قاله أبو البقاء وإليه ذهب ابن الأنباري، إلا أن تقديم ما في حيّزها عليها لم يُجِزْه البصريون، وأجازه الكوفيون.
قال أبو البقاء: ولا يجوز أن تكون {ما} مصدرية؛ لأن {قليلًا} يبقى بلا ناصب، يعني: أنك إذا جعلتها مصدرية كان ما بعدها صلتها، ويكون المصدر مرفوعًا بقليلًا على أنه فاعل به فأين الناصب له؟ وهذا بخلاف قوله تعالى: {كَانُواْ قَلِيلًا مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17] فإن {ما} هاهنا يجوز أن تكون مصدرية؛ لأن قليلًا منصوب بكان وقال الزمخشري: يجوز أن تكون القلّة بمعنى العدم.
وقال أبو حَيَّان: وما ذهب إليه من أن قليلًا يراد به النَّفي فصحيح، لكن في غير هذا التركيب، أعني قوله تعالى: {فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ} لأن قليلًا انتصب بالفعل المثبت، فصار نظير: قمت قليلًا أي: قمت قيامًا قليلًا، ولا يَذْهب ذاهب إلى أنك إذا أتيت بفعل مثبت، وجعلت قليلًا منصوبًا نعتًا لمصدر ذلك الفِعْل يكون المعنى في المثبت الواقع على صفة، أو هيئة انتفاء ذلك المثبت رأسًا وعدم وقوعه بالكلية، وإنما الذي نقل النحويون: أنه قد يراد بالقلّة النفي المحض في قولهم: أقل رجل يقول ذلك وقلّما يقوم زيد، وإذا تقرر هذا فحمل القلّة على النفي المحض هنا ليس بصحيح. انتهى.
وأجيب بأن ما قاله الزمخشري من أن معنى التقليل هنا النَّفي قد قال به الوَاقِدِيّ قبله، كما تقدم فإنه قال: أي: لا قليلًا ولا كثيرًا، كما تقول: قلّما يفعل كذا، أي: ما يفعله أصلًا. اهـ.

.تفسير الآية رقم (89):

قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما ذكر سبحانه من جلافتهم ما ختمه بلعنهم وكان قد قدم ذكر كتابهم مرارًا وأشار إلى الإنجيل بإيتاء عيسى عليه السلام البينات ذكر سبحانه كفرهم بهذا الكتاب الذي مقصود السورة وصفه بالهدى وبهذا الرسول الآتي به دليلًا على إغراقهم في الكفر، لأنهم مع استفتاحهم به صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه على من يعاديهم واستبشارهم به وإشهادهم أنفسهم بالسرور بمجيئه كانوا أبعد الناس من دعوته تماديًا في الكفر وتقيدًا بالضلال، فكان هذا الدليل أبين من الأول عند أهل ذلك العصر وذلك قوله تعالى: {ولما جاءهم كتاب} أي جامع لجميع الهدى لعظمته لكونه {من عند الله} الجامع لجميع صفات الكمال، ثم ذكر من المحببات لهم في اتباعه قوله: {مصدقًا لما معهم} على لسان نبي يعرفون صحة أمره بأمور يشهد بها كتابهم، وبتصديق هذا الكتاب له بإعجاز نظمه وتصديق معناه لكتابهم، والجواب محذوف ودل ما بعد على أنه كفروا به، وفي ذلك قاصمة لهم لأن كتابهم يكون شاهدًا على كفرهم، ولما بين شهادة كتابهم أتبعه شهادتهم لئلا يحرفوا معنى ذلك فقال: {وكانوا} أي والحال أنهم كانوا، ولما كان استفتاحهم في بعض الزمان أثبت الجار فقال: {من قبل} أي قبل مجيئه {يستفتحون} أي يسألون الله الفتح بالاسم الآتي به تيمنًا بذكره!! {على الذين كفروا} يعني أنهم لم يكونوا في غفله عنه بل كانوا أعلم الناس به وقد وطنوا أنفسهم على تصديقه ومع ذلك كله {فلما جاءهم} برسالة محمد صلى الله عليه وسلم علم {ما عرفوا} أي ما صدقه بما ذكر من نعوته في كتابهم {كفروا به} اعتلالًا بأنواع من العلل البينة الكذب، منها زعمهم أن جبريل عليه السلام عدوهم وهو الآتي به؛ قال الثعلبي والواحدي: روى ابن عباس رضي الله عنهما أن عبد الله بن صوريا حاجّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء، فلما اتجهت الحجة عليه قال: أي ملك يأتيك من السماء؟ قال: «جبريل، ولم يبعث الله نبيًا إلا وهو وليه»- وفي رواية: وسأله عمن يهبط عليه بالوحي، فقال: «جبريل، فقال: ذاك عدونا، ولو كان غيره لآمنا بك».
وقال ابن إسحاق في السيرة: حدثني عبد الله ابن عبد الرحمن بن أبي حسين المكي عن شهر بن حوشب الأشعري أن نفرًا من أحبار يهود جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: خبرنا عن أربع نسألك عنهن، فإن فعلت اتبعناك وصدقناك وآمنا بك، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بذلك عهد الله وميثاقه لئن أنا أخبرتكم بذلك لتصدقني»، قالوا: نعم، قال: «فاسألوا عما بدا لكم!» قالوا: فأخبرنا: كيف يشبه الولد أمه وإنما النطفة من الرجل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل هل تعلمون أن نطفة الرجل بيضاء غليظة ونطفة المرأة صفراء رقيقة فأيتهما علت صاحبتها كان الشبه لها؟» قالوا: اللهم نعم، قالوا: فأخبرنا عن كيف نومك؟ قال: «أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل هل تعلمون أن نوم الذي تزعمون أني لست به تنام عينه وقلبه يقظان؟» قالوا: اللهم نعم، قال: «فكذلك نومي، تنام عيني وقلبي يقظان»، قالوا: فأخبرنا عما حرم إسرائيل على نفسه، قال: «أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل هل تعلمون أنه كان أحب الطعام والشراب إليه ألبان الإبل ولحومها وأنه اشتكى شكوى فعافاه الله منها فحرم على نفسه أحب الطعام والشراب إليه شكرًا لله فحرم على نفسه لحوم الإبل وألبانها؟» قالوا: اللهم نعم؛ قالوا: فأخبرنا عن الروح، قال: «أنشدكم بالله وبأيامه هل تعلمون جبريل وهو الذي يأتيني؟» قالوا: اللهم نعم ولكنه يا محمد لنا عدو، وهو ملك إنما يأتي بالشدة وسفك الدماء، ولولا ذلك لاتبعناك.
فأنزل الله فيهم {قل من كان عدوًا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقًا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين} [البقرة: 97] إلى قوله: {أو كلما عاهدوا عهدًا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون} [البقرة: 100]، وأصل ذلك في البخاري في خلق آدم والهجرة والتفسير عن أنس بن مالك رضي الله عنه- من روايات جمعت بين ألفاظها- قال: أقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أي في الهجرة- إلى أن قال: فأقبل يسير حتى نزل إلى جانب دار أبي أيوب رضي الله عنه، فإنه ليحدث أهله إذ سمع به عبد الله بن سلام وهو في نخل لأهله يخترف لهم، فعجل أن يضع التي يخترف لهم فيها فجاء وهي معه، فسمع من نبي الله صلى الله عليه وسلم ثم رجع إلى أهله، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: «أي بيوت أهلنا أقرب» فذكر نزوله على أبي أيوب رضي الله عنه ثم قال: فلما جاء نبي الله صلى الله عليه وسلم جاء عبد الله بن سلام رضي الله عنه فقال: أشهد أنك رسول الله وأنك جئت بحق وقد علمت يهود أني سيدهم وابن سيدهم وأعلمهم وابن أعلمهم فادعهم فسلهم عني قبل أن يعلموا أني قد أسلمت، فإنهم إن يعلموا أني قد أسلمت قالوا فيّ ما ليس فيّ وفي رواية: بلغ عبد الله بن سلام مقدم النبي صلى الله عليه وسلم وهو في أرض يخترف فأتاه فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ ومن أي شيء ينزع الولد إلى أبيه ومن أي شيء ينزع إلى أخواله. وفي رواية: وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أخبرني بهن جبريل آنفًا، فقال عبد الله: ذاك عدو اليهود من الملائكة، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {من كان عدوًا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله} [البقرة: 97]».
أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت. وفي رواية «الحوت» «وأما الشبه في الولد فإن الرجل إذا غشي المرأة فسبقها ماؤه كان الشبه له، وإذا سبقت كان الشبه لها» وفي رواية: «وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة نزعت قال: أشهد أنك رسول الله ثم قال: يا رسول الله إن اليهود قوم بهت، إن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم بهتوني عندك، فأرسل نبي الله صلى الله عليه وسلم فدخلوا عليه» وفي رواية: فجاءت اليهود ودخل عبد الله البيت- فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر اليهود ويلكم اتقوا الله، فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله وأني جئتكم بحق فأسلموا، قالوا: ما نعلمه قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم وقالها ثلاث مرار، قال: فأي رجل فيكم عبد الله بن سلام؟ قالوا: ذاك سيدنا وابن سيدنا وأعلمنا وابن أعلمنا وأخيرنا وابن أخيرنا، قال: أفرأيتم إن أسلم قالوا: حاشا لله ما كان ليسلم» وفي رواية: «أعاذه الله من ذلك» قال: «يا ابن سلام اخرج عليهم» فخرج فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، يا معشر اليهود اتقوا الله فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله وأنه جاء بحق، قالوا: كذبت، وقالوا: شرنا وابن شرنا، ووقعوا فيه فانتقصوه، قال: فهذا الذي كنت أخاف يا رسول الله فأخرجهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وللواحدي في أسباب النزول عن عمر رضي الله عنه قال: كنت آتي اليهود عند دراستهم التوراة فأعجب من موافقة القرآن التوراة وموافقة التوراة القرآن، فقالوا: يا عمر ما أحد أحب إلينا منك، قلت: ولم؟ قالوا: لأنك تأتينا وتغشانا، قلت: إنما أجيء لأعجب من تصديق كتاب الله بعضه بعضًا وموافقة التوراة القرآن وموافقة القرآن التوراة، فبينا أنا عندهم ذات يوم إذ مر رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف ظهري فقالوا: إن هذا صاحبك فقم إليه، فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دخل خوخة من المدينة، فأقبلت عليهم فقلت: أنشدكم الله وما أنزل عليكم من كتاب أتعلمون أنه رسول الله؟ قال سيدهم: قد نشدكم بالله فأخبروه، فقالوا: أنت سيدنا فأخيره، فقال سيدهم: نعلم أنه رسول الله، قلت: فأني أهلككم إن كنتم تعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لم تتبعوه، فقالوا: إن لنا عدوًا من الملائكة وسلمًا من الملائكة، فقلت: من عدوكم ومن سلمكم؟ قالوا: عدونا جبريل، قلت: ومن سلمكم؟ قالوا: ميكائيل، قلت: فإني اشهد ما يحل لجبريل أن يعادي سلم ميكائيل، وما يحل لميكائيل، قلت: فإني أشهد ما يحل لجبريل أن يعادي سلم ميكائيل، وما يحل لميكائيل، أن يسالم عدو جبريل، وإنهما جميعًا ومن معهما أعداء لمن عادوا وسلم لمن سالموا، ثم قمت فاستقبلني يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: «يا ابن الخطاب ألا أقرئك آيات؟ فقرأ {من كان عدوًا لجبريل فإنه نزله على قلبك} حتى بلغ: {وما يكفر بها إلا الفاسقون} [البقرة: 99]». قلت والذي بعثك بالحق ما جئتك إلا أخبرك بقول اليهود فإذا اللطيف الخبير قد سبقني بالخبر قال عمر: فلقد رأيتني في دين الله أشد من حجر. انتهى.
وقد سألت بعض فضلاء اليهود الموجودين في زماننا عن عداوتهم لجبريل عليه السلام فلم يسمح بالتصريح وقال: ما يعطى ذلك.
وقد روى هذا الحديث أيضًا إسحاق بن راهويه في مسنده عن الشعبي عن عمر رضي الله عنه، قال شيخنا البوصيري: وهو مرسل صحيح الإسناد وفيه: أنه قال لهم: وكيف منزلتهما من ربهما؟ قالوا: أحدهما عن يمينه والآخر من الجانب الآخر، وإني أشهد أنهما وربهما سلم لمن سالموا وحرب لمن حاربوا.
ولما بين سبحانه بهذا أنهم أعتى الناس وأشدهم تدليسًا وبهتًا بل كذبًا وفسقًا كانوا أحق الناس بوصف الكفر فسبب عن ذلك قوله: {فلعنة الله} أي الذي له الأمر كله {على الكافرين} فأظهر موضع الإضمار تعليقًا للحكم بالوصف ليعم وإشعارًا بصلاح من شاء الله منهم. اهـ.